في هذه الأيام، يبدو أن الاندفاع لتأسيس شركة ناشئة يُعدّ شهـوة جامحة أكثر بكثير من كونه تفكيـرا مرشّدا. بريق ريادة الأعمال في كل مكـان، الكـل أصبح يسعى لحمل لقب “مؤسس” (Founder) لشيء ما، المراهقـون والشباب الرياديـون ذوو الملايين يعتلون المسارح لإلقاء المحاضـرات. بريق ريادي هائل يُعمـي العيـون، ويدفع الجميـع للانطلاق إلى العمل الحر وتأسيس الشركات دون دراسة، والأهم: دون أي علم بالجانب المُظلم حالك السواد من القمـر.
ليس معنى أن لديك فكـرة جيّدة وبعض المال الذي تراه مناسبا لتمويلها أنك أصبحت تملك ما يكفي لتأسيس شركة ناشئة ناجحة؛ فبحسب الإحصاءات أكثر من 50% من المشروعات الناشئة تفشل في السنوات الأربع الأولى منذ تأسيسها، على الرغم من تحمّس أصحابها الشديد لها في البداية.
بحسب العديد من التقارير، ثمة مجموعة من العناصر الأساسية التي إذا غابت فالمؤكد أن شركتك ستتعرض للفشل في سنواتها الأولى. سنفترض الآن أنك تملك فكرة تراها أنت جيدة، ولديك الحد الأدنى من التمويل. حسنا، مهما كان مستوى حماسك وتمويلك، من الأفضل أن تقوم بتأجيل إطـلاق شركتك الناشئة لفتـرة من الوقت عندما تجد نفسك مفتقدا لهذه العناصر.
ليس لديك “خطـة مكتــوبة”
الكثير من رواد الأعمال المبتدئين يندفعـون إلى إنشاء شركاتهم الخاصة بناء على طموح واسع للتأسيس وبدء العمـل بدون الاستعانة بخطـة مكتوبة واضحة المعالم. في الغالب، يكـون المبرر الذي يستخدمه هؤلاء هو أن الفكـرة واضحة تماما وأنه لا حاجة إلى تضييع الوقت في كتابة “خطـة عمـل” (Business Plan) شاملة، تقسّم المشروع إلى مراحل تنفيذية واضحة، وتحدد مهام المؤسسين والعاملين والموظفين، وغيـرها من التفاصيل التي تحملها خطط العمل.
في السنوات الأخيرة، ظهـرت دعـوى غير مبررة أن الانشغال بكتابة خطـة عمل شاملة ليس أمرا عصريا ولا ضـروريا، بل إنه يستهلك الكثير من الوقت. إذا ظهـرت أمامك هذه الدعـوى، فلا تصدّقها. خطـة العمـل المكتوبة الشاملة هي أفضل طريقـة لضمـان أن مشروعك الأول الذي تطمح لتأسيسه سيتجنب الفشـل، وهي أفضـل طريقة ممكنة لتحويل أفكـارك الطموحة التي لا تزال في الهواء إلى عمل حقيقي واقعي بأقل قدر من الأخطاء والانزلاقات.
بمعنى آخر، خطـة العمل المكتوبة بدقة هي حجر الأساس الأول الذي يجب أن يتم التركيز على وضعه بعنـاية شديدة، وإلا سيكـون احتمال أن تذهب إلى طريق مسدود واردا جدا، باعتبار أنك إذا لم تحدد وجهتك منذ البداية، فالبديهي أن تجد نفسك انتهيت إلى مكان آخر مختلف تماما لما كنت تظن أنك ذاهب إليه.
النمـوذج الربحي غيــر واضح
المشـروع -أي مشـروع- سواء كان شركة ناشئة تقنية أو مشروعا تقليديا، سواء كان مؤسسة ربحيـة أو مؤسسة غير ربحيـة، يجب أن يولّد أرباحا كافيـة لتغطيـة تكاليف تشغيله أولا، ثم أرباحا تعود على مؤسسه ثانيا. حتى المؤسسات غير الربحيـة، يجب أن تحقق أرباحا (Revenue) سواء من منافذ توفر هذه الأرباح أو من خلال التبرعات أو غيرها.
من الضـروري بشكل كامل أن يكون لديـك تصوّر عن النموذج الربحي للمشـروع، وهو ما يعرف بـ “البيزنس موديل” (Business Model). ما الطرق التي سيربح من خلالها المشـروع الأموال التي يُعاد تدويرها مرة أخرى لتغطيـة تكاليف تشغيله، دون الاستمرار في استنزاف المال من جيبك الخاص لتمويله، وطبعا دون الاستمرار في استنزاف أموال الممولين أو المستثمـرين -في حالة استطعت الحصول على تمويل من جهـة ما-.
إذا لم يكن النموذج الربحي لمشـروعك واضحا وضوح الشمس، أو كان المنتج أو الخدمة التي تقدمها تؤدي إلى خسارة الأموال بشكل تراكمي، إما بسبب ضعف قنوات الربح نفسها وإما عدم قدرة المستهلكين على شراء المنتج أو الخدمة، فالمؤكد أن هذا المشـروع لن يستمـر على قيد الحيـاة سوى زمن يسيـر، عدة أسابيع أو أشهر أو حتى سنوات، والنتيجة النهائية أنك ستضطـر إلى إغلاقه بعد أن تستنزف من جيبك الكثير من الأموال.
ليس لديك خطوات تنفيذية واضحة
فكـرة “المليون دولار” التي يزعم معظم روّاد الأعمال أنهم يمتلكونها وأنهم في قمة الحماس لها هي في الواقع فكـرة قيمتها لا تزيد على صفـر. طالما هذه الفكـرة حبيسة الذهن، ولا يوجد آليات تنفيذية واضحـة تحوّلها من مجرد فكـرة في عقل صاحبها إلى مشـروع واقعـي على الأرض، فلا يمكن تسعيرها بأي رقم مهما كانت الفكـرة عبقرية وجديدة.
الفكـرة المتميزة بمفردها لا تساوي شيئا، الأهم من الفكـرة هو القدرة على تطبيقها بشكل صحيح. لذلك، من أهم الضـروريات قبل اتخاذ قرار تأسيس شركة ناشئة في أي مجال مهما كان نوعها، تحديد رائد الأعمال لقدراته في إمكـانية تحويل هذه الفكـرة إلى خطوات تنفيذية واضحـة، واتخاذ قرارات صعبـة ومخاطر عالية لتنفيذ هذه الإجراءات. بمعنى آخر، إذا لم تكن مستعدا “فنيا” في اتخاذ الإجراءات التنفيذية التي تحول الفكـرة إلى واقع، وإذا لم تكن مستعدا “نفسيا” للمرور بأوقات صعبة لمتابعة تنفيذ هذه الآليات، فمن الأفضل تأجيل المشروع قليلا.
الفكـرة لا تغطّي شريحة “نيتش” كافيـة
كلمة “نيتش” (Niche) هي كلمة من أصول فرنسية مستخدمة بكثرة في لغة العمل، تعني: الشريحة المُستهدفة في السوق. أو بعبارة أخرى: السوق المتخصص الذي تطـرح فيه منتجـك أو خدمتك، ومستوى وجود الزبائن والمستهلكين في هذه الشريحة التي من المتوقع أن تُقبـِل على الشراء. وبالطبع تزداد أهمية تحديد النيتش بالنسبة للشركات الناشئة الصغيـرة لأنها هي التي تضمن وجود عدد أكبر من العملاء.
في أحيان كثيـرة، يقرر رائد الأعمال أن يطلق شركته الناشئة في نيتش محدود للغاية، لمجرد أن الفكـرة التي في رأسه تروق له بشدة ويشعر بالحماس تجاهها، دون أن يختبر إمكانياتها بشكل كافٍ ومدى تلاؤمها مع الفرص السوقية. هل هذا المنتج لديه شريحة كبيرة من المستهلكين المستهدفين؟ هل يقدم خدمة جديدة أو نوعية أو مستوى مختلفا من الكفاءة يجعـل الشريحة التي يستهدفها من الزبائن كافية للإقبال عليه، وبالتالي شراء المنتج أو الخدمة، ومن ثم تدور عجلة الأرباح بشكل كافٍ لتغطية المصـاريف على المدى القريب والبعيد؟، باختصار: من الضـروري أن تقوم بإجراء أبحاث السوق (Market Research) بشكل موسّع للتأكد أن الفكـرة التي تملكها قابلة للتطبيق أولا، وأن السوق يحتاجها بالفعل ثانيا، وأن الشريحة السوقية التي يمكن أن تستهدفها ستضمن لك وجود مستوى متماسك من الربح يجعل الشركة تستمر في البقاء.
لم تحدد المكان الأنسب للصيد
واحد من أكبر المخاطر التي تهدد الشركات الناشئة في بداياتها هو أن يكون السوق الذي تقرر اللعب فيه مزدحما بالمنافسين أكثر مما يجب، أو العكس، فارغا من المنافسين تماما. إذا قررت تأسيس شركة ناشئة في مجال محدد، ووجدت أن هذا السوق خالٍ تماما من المنافسين، فهذه ليست علامة جيدة كما يظن البعض، بل في الواقع ربما تكون علامة تحذير بالنسبة لك أن هذه البحيــرة خالية أصلا من الأسماك، وهذا هو السبب الذي جعلها خالية من الصيّادين.
أثناء مرحلة الأبحاث السوقية (Market Research) إذا وجدت أن الساحة مزدحمة للغايـة، أو -على النقيض- أن الساحة فارغة تماما، فهذه إشارات واضحة تماما على أنه من الخطـر أن تحط رحالك في هذا السوق تحديدا وتبدأ الصيد. أفضـل مكان لبدء الصيد هو ذلك السوق الذي يحتوي على عدد محدود من المنافسين -حتى لو كانوا منافسين أقوياء-، لأنه يضمن لك أمرين: أن هناك أسماكا بالفعل في هذه البحيـرة، وأن محدودية المنافسين تسمح لك بالمنافسة على قسط من هذه الأسماك -حتى لو كان قسطا محدودا- ثم التوسّع لاحقا.
المنافسة الشرسة في السوق هي إشارة إلى ارتفاع معدلات خطـورة استمرار مشروعك -إلا لو كنت مستعدا لها بشكل عالٍ الكفاءة-، وغياب المنافسة تماما في السوق هو إشارة تحذير إلى أن الصيادين قد مرّوا من هنا ولم يجدوا أسماكا، إلا إذا كان لديك أساليب مختلفة لجذب الأسماك واصطيادها في هذه البركة الراكدة.
فريقك ليس لديه الحد الأدنى من الخبـرة
ندما تبدأ في إطلاق شركتك الناشئة فمن غير الوارد أن تستعين بفريق من الخبراء العالميين المخضرمين في هذا المجال، إلا لو كان تمويلك كبيرا ويسمح لك بالاستعانة بفريق ذي كفاءة عالية. ولكن، في معظم الحالات تبدأ الشركات الناشئة بمجموعة من الموظفين متوسطي الكفاءة والخبرة على الأقل، بشكل يساعد في تنفيذ خطوات تحويل الشركة من فكـرة على الورق إلى واقع يدرّ الأرباح.
في الواقع، المستثمـرون والمموّلون وشركات التمويل المخاطر عادة ما يقومون بتمويل “الأشخاص” وليس الأفكار. المستثمـر دائما يبحث عن الفريق الذي يحمل قدرا من الخبرة الحقيقية التي تكفل له تحويل الفكـرة إلى شركة ناشئة قوية عندما يحصل على الاستثمار المطلوب، لأن الأشخاص ذوي الخبرة فقط يمكنهم تحويل الأفكار إلى واقع.
إذا كنت بصدد إطلاق مشروعك الأول، ولا تحمل الخبرة اللازمة لإدارته بشكل كبير، فمن الضـروري أن تضمن أحد أمرين: إما أن يكون شريكك المؤسس لديه خبرة كافية في هذا المجال بشكل يجعله يخبرك بما يجب أن يتم إنجازه، وما يمكن تأجيله، وإما أن تلجأ إلى توظيف فريق عمل يضم الحد الأدنى من الخبرات اللازمة لتنفيذ المشروع بأقل قدر من الأخطاء والتعثرات. أما إذا كنت تفتقد العناصر الثلاثة، فلا أنت تحمل الخبرة اللازمة، وليس لديك شريك لديه الخبرة اللازمة، ولا تستطيع توظيف أشخاص لديهم الخبرة اللازمة، فقطعا لا تبدأ هذا المشروع إلا بعد أن تحقق هذه العناصر.
ليس لديك خطة تسويقية شاملة
كتابتك لخطة عمل مُحكمة وحماسك لفكـرة معينة شيء، ووضع خطة تسويقيـة شاملة شيء آخر، مهما كان المنتج أو الخدمة التي تقدمها ممتازة أو تقليدية، فالسر كله يكمن في قدرتك على تسويقها عبر أذرع التسويق الصحيحة التي تصل من خلالها إلى شرائحك المُستهدفة في الأسواق.
في الوقت الحالي، لم يعد التسويق مقتصرا على وسائل التسويق الاعتيادية، وإنما يشمل منصات مختلفة يمكن من خلالها التسويق للمنتجات والترويج للعلامة التجارية بشكل أكبر من خلال وسائل الإعلام الجديد المتاحة حاليا ولم تكن متاحة في العقود السابقة. وبالتالي، منهجيات التسويق الفيـروسي متاحة بشكل أكبر حاليا للوصول إلى شرائح الزبائن والمستهلكين بشكل أكثر سهولة من الماضي. المهم أن تكون الخطط التسويقية واضحة بشكل كبير منذ اللحظة الأولى لإطلاق المشـروع، بما تشمله من ميزانيات وأبحاث سوقية ودعاية وإعلان وغيرها.
بشكل عام، إذا لم يكن لديك خطة تسويق واضحة مُستقلة وشاملة، بدءا من استخدام التسويق الرقمي والتسويق التقليدي، وآليات الدعاية والإعلان والبيع، وغيرها من وسائل التسويق المختلفة التي تضمن انتشار المنتج بأكبر شكل ممكن، فقم بتأجيل المشروع قليلا.
أخيرا.. لست مهيأ نفسيا للفشل
الدخول إلى عالم ريادة الأعمال يحتاج إلى وقت طويل، والخروج منه لا يستغرق سوى لحظات. عندما يواجه رائد الأعمال المبتدئ الصعوبات المعتادة في هذا العالم، يكون ردّ فعله إما البقاء والصمود والاستمرار والتعلم من أخطائه والمحاولة المستميتة للوصول إلى شاطئ النجاة، وإما يكون رد فعله الاستسلام واتخاذ القرار بإغلاق الشركة وتصفيتها والعودة مرة أخرى إلى عالم الوظيفة الآمن الخالي من المشكلات.
إذا لم يكن لديك القدرة على العمل طوال اليوم، وليس فقط العمل لمدة ثماني ساعات، وإذا لم يكن لديك القدرة أو الصبر على تقبّل الإخفاقات والمشاكل واتخاذ القرارات الصعبة والتعرض لنزيف من الخسائر، فضلا عن التنقل والحركة والسفـر وربما التخلي عن الأشياء التي كنت تعتبرها أساسية في نمط حياتك الترفيهية، فربما من الأفضـل بالنسبة لك تأجيل إطلاق المشروع إلى وقت آخر تكون فيه أكثر صبرا وقدرة على التحمل والمتابعة.
في النهاية، ثمة فرق كبير بين أخطاء عاديـة تقع فيها الشركات الناشئة في بداية مشوارها تتيح لها التطوير والتعديل واكتساب الخبرات لتحقيق النجاح الكبير لاحقا، والأخطاء الكبرى التي قد تؤدي إلى عرقلة نشاط الشركة بالكامل، وإدخالها ضمن نسبة الـ 50% المخيفة لانهيار المشروع بالكامل. النوع الأول من الأخطاء يكون غالبا أخطاء في قيادة السفينة، بينما النوع الثاني يكون أخطاء في بناء السفينة نفسها.