راهن البعض على دخول شركة آبل عصورها المُظلمة منذ رحيل “ستيف جوبز” واستلام “تيم كوك” زمام الأمور بسبب الارتباط الوثيق بين إبداع آبل ورؤية “جوبز”، إلا أن تلك الرهانات بدت خاسرة وانسحب أصحابها تماما في أغسطس/آب 2018 بعدما أصبحت قيمة الشركة 1 تريليون دولار أميركي كأغلى شركة تقنية على مستوى العالم. لكن ما هي سوى أسابيع قليلة حتى بدأ سعر سهم الشركة بالانهيار لتخسر ما يُقارب الـ 300 مليار دولار أميركي من قيمتها، وليبدأ المُستثمرون في بيع أسهمهم الواحد تلو الآخر.
أسباب ظاهريّة
وصل سعر سهم شركة آبل في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2018 إلى 232 دولارا أميركيا تقريبا، مُحقّقة بذلك أعلى قيمة مُمكنة للسهم في تاريخ الشركة لعدّة أسباب منها هواتف آيفون الجديدة، سُرعان ما بدأت قيمة السهم بالانخفاض، الأمر الذي اعتبره البعض أمرا طبيعيا وسيتوقّف عند نقطة ما.
وبالأرقام، فإن قيمة السهم وصلت في مُنتصف أكتوبر/تشرين الأول إلى 217 دولارا أميركيا تقريبا، وإلى 213 دولارا مع نهايته، لتعاود الارتفاع إلى 222 دولارا مع بداية نوفمبر/تشرين الثاني. ومع نهاية الأسبوع الأول من الشهر نفسه، انخفضت القيمة من جديد إلى 208 دولار ثم إلى 193 دولارا مع الوصول إلى مُنتصفه، لتستمر المعاناة مع الوصول إلى اليوم الخامس والعشرين من الشهر الحادي عشر بعدما أغلق السهم على سعر 172 دولارا أميركيا، ليصل مُعدّل الخسارة بذلك إلى أكثر من 25٪ من قيمة السهم، وتخسر آبل أكثر من 300 مليار دولار أميركي من قيمتها.
بربط الأحداث والتواريخ التي تغيّر فيها سعر السهم يُمكن تبرير كل شيء، فالشركة كشفت في بداية نوفمبر/تشرين الثاني عن نتائجها المالية ذاكرة فيها عن تراجع طفيف في مبيعات هواتف آيفون، وعن توقّعاتها في تراجع تلك المبيعات خلال الربع المُقبل. كما ذكرت أيضا أنها لن تقوم بالكشف التفصيلي عن عدد الهواتف والحواسب التي تبيعها، بل ستكتفي بذكر المبلغ الإجمالي الذي حقّقته من بيع تلك الأجهزة مُجتمعة، الأمر الذي أقلق المُستثمرين بشكل كبير جدا.
تراجع مبيعات آيفون يعني تراجع قيمة الشركة ككُل، لأن تلك الأجهزة تُساهم تقريبا في ثُلثي دخل آبل. بمعنى آخر، كل 3 دولارات أميركية تحصل عليها آبل، دولاران منها قادمة من مبيعات الهواتف. واستمرارا مع الهواتف، أكّدت مصادر مُختلفة أن آبل بدأت بخفض الطلبات على مكوّنات آيفون الداخلية، فبعدما وضعت الشركة أرقاما مُعيّنة، لاحظت أنها بالغت قليلا وأن المبيعات لم ترق للحجم المطلوب، وبالتالي طالبت مزوّدي القطع الداخلية كالشاشات وذواكر التخزين بخفض معدّل الإنتاج(3). المُستثمرون أكّدوا أن ما قامت به الشركة هذا العام مع هواتف آيفون كان غير طبيعي، فهي لم تُقدّم الكثير من الابتكارات، لكنها استمرّت في سياسة تسعيرها المُرتفعة، خصوصا في آيفون “إكس آر” (Xr)، الهاتف الذي من المفترض أنه موجّه للشريحة المتوسّطة، إلا أن بيعه لقاء 750 دولارا أميركيا كان غير منطقي.
وبالحديث عن التسعير الخاطئ، فإن هذا الأمر انعكس سلبا على مبيعات الشركة في الصين، السوق الذي تُعوّل عليه كثيرا خصوصا بعدما قدّمت خاصيّة استخدام شريحتين عوضا عن واحدة للمرّة الأولى، فدفع 750 دولارا + ضرائب الدولة يعني أن آيفون “إكس آر” قد يصل سعره إلى أكثر من 900 دولار أميركي، وهو أمر غير مقبول في ظل وجود الكثير من البدائل.
نقطة تحوّل
راجع مبيعات هواتف آيفون من جهة، وقرار آبل في عدم الإفصاح عن الأرقام التفصيلية من جهة أُخرى، يُمكن أن تكون من العوامل التي أدّت إلى انخفاض سعر سهم آبل خلال الأسابيع القليلة الماضية. لكن مثل تلك الأمور تكون كالصدمات التي تؤدّي إلى إحداث تغيّر في السعر وتتوقّف عند هذا الحد، إلا أن الاستمرار في الانخفاض قد تكون له تفسيرات أُخرى أكثر منطقية كانت المُساهم الأكبر.
تجاهلت الكثير من الوسائل الحديث عن التراجع الجماعي لأسهم الشركات التقنية الكُبرى مثل فيسبوك وأمازون وآبل رفقة “نتفليكس” (Netflix) وغوغل، أو ما يُعرف بـ (FAANG)، فتلك الشركات، وخلال الأشهر الثلاثة الماضية خسرت هي الأُخرى، فسهم فيسبوك سجّل تراجعا بلغ 23٪، بينما تراجع سهم أمازون بنسبة 20٪، رفقة سهم “نتفليكس” بنسبة 21٪ وأخيرا غوغل بتراجع نسبته 15٪، ليكون الأمر طبيعيا بالنسبة لشركة آبل، فهي ليست استثناء، إلا أن المُستثمرين يعتبرون أن التقاط آبل لتلك الحُمّى أمر يدعو للقلق، لأنها عادة ما تكون الناجي الوحيد من بين تلك الأسماء.
تعيش شركة آبل أيضا مرحلة تحوّل كُبرى عاشتها قبل عقد ونصف من الزمن عندما قدّمت أجهزة آيبود للمرّة الأولى بعد سنوات من الاعتماد على الحواسب كمصدر دخل أساسي، فهي تُعيد الكرّة هذه المرّة بالتوسّع في قطاع الخدمات والترفيه على حساب قطاع الهواتف، وبالتالي فإن تراجع الأسهم مُبرّر لأن الدخل يعتمد حاليا على آيفون بنسبة كبيرة، وهو شيء لن يدوم لفترة طويلة إذا ما نجحت رؤية الشركة في قطاع الخدمات المُختلفة.
يضم قسم الخدمات متجر التطبيقات، وخدمة الدفع الإلكتروني، إضافة إلى “آي كلاود” (iCloud) للتخزين السحابي و”آبل ميوزك” للموسيقى والترفيه، وهذا قسم نجح في ضخ 37 مليار دولار أميركي خلال السنة المالية من عام 2018، في وقت ضخّت فيه أجهزة مثل الساعة الذكية والسمّاعات اللاسلكية 17 مليار دولار فقط. أما هواتف آيفون، فهي أدخلت 167 مليار دولار إلى خزينة آبل. وعلى الرغم من ضآلة الرقم، فإن قطاع الخدمات نما بنسبة تتراوح بين 20٪ إلى 30٪ خلال عام 2018، مع توقّعات بأن يُساهم بما يصل إلى 20٪ من دخل آبل خلال الفترة المُقبلة.
انخفاض مبيعات الهواتف لايعني انخفاض عائدات آبل
أخيرا، فإن العلاقة بين مبيعات هواتف آيفون وأرباح شركة آبل فيها نوع من التناسب الذي تُدركه الشركة وتلعب عليه منذ فترة طويلة، فمع مرور الوقت تنخفض تكلفة إنتاج المكوّنات الداخلية، وعوضا عن أن تكون تكلفة إنتاج “آيفون إكس” 412 دولارا أميركيا، أصبحت 358 دولارا، وهذا الأمر ينطبق على جميع الهواتف الذكية.
ما سبق يعني أن آبل في هواتف 2018 تحصل على هامش ربح أعلى من الذي كانت تحصل عليه في 2017، لذا فإن انخفاض مبيعات آيفون في 2018 لا يعني بالضرورة انخفاض الأرباح بالقيمة نفسها، لأن بيع 3 هواتف “آيفون إكس إس” (iPhone XS) قد يُعادل بيع 5 “آيفون إكس” على سبيل المثال، لتبقى نسبة الدخل واحدة، وهذا يُفسّر حفاظ كبار المُستثمرين على أسهمهم في آبل.
أيا كانت الشركة التقنية، فإن وجود مُستثمرين كبار الحجم فيها يعني، إلى جانب النقود، خبرة استشارية طويلة في مجال الشركات التقنية، لذا فإن شخصا مثل “وارن بافيت” (Warren Buffett) لن يتوانى عن تقديم النصائح لمجلس إدارة آبل في حالة رؤية تخبّطات حقيقية قد تُبعدها عن المراكز الأولى.