من السهل جدا التخلّص من عُنصر المُفاجأة الذي رافق خسارة شركة آبل لأكثر من 300 مليار دولار أميركي من قيمتها بعد النظر إلى بعض العوامل مثل تباطؤ مبيعات هواتف آيفون وتراجع الشركة إلى المركز الثالث بين مُصنّعي الهواتف الذكية عالميا، كما أن تغيير الهوية يُظهر مثل تلك العوارض. لكن في الوقت نفسه، لا يُمكن الاتّكاء كثيرا على تلك الشمّاعة، ففي ظل وجود منافسة شرسة من قِبل غوغل ومايكروسوفت، سامسونغ وأمازون، تحتاج الشركة خلال 2019 إلى القيام بردّة فعل سريعة.
حيرة في خيرة
أفرد “كين سيغال” (Ken Segall) كتاب “البساطة لحد الجنون” (Insanely Simple) للحديث عن هوّية آبل التي بُنيت على أساس البساطة دائما وأبدا، وعلى قول كلمة لا للكثير من الأفكار المجنونة للتركيز على الفكرة الرئيسية في أكثر من مُنتج، ويستشهد بحوارات داخلية أجراها “ستيف جوبز” مع موظّفيه أثناء تطوير الكثير من المُنتجات. ذلك المبدأ يبدو واضحا أيضا مع عودة “جوبز” إلى شركة آبل بعد طرده منها، حيث نظر إلى الحواسب التي وفّرتها الشركة آنذاك، والتي كانت تسعى لإرضاء الكثير من العُملاء في آن واحد، إلا أنها في الوقت نفسه تُشتّت الزبون وتتركه في حيرة من أمره، الأمر الذي ألغاه “جوبز” فورا عبر تقليل الخيارات قدر الإمكان.
اتّبعت آبل الأسلوب نفسه في الهواتف الذكية والحواسب اللوحية أيضا، دون نسيان أجهزة “آيبود” التي شكّلت الدخول الحقيقي للشركة إلى عالم الأجهزة الاستهلاكيّة. لكن للرئيس التنفيذي الحالي “تيم كوك” (Tim Cook) رأي مُغاير على ما يبدو يتعارض مع هوّية آبل السابقة والحاليّة، فالشركة ما زالت تسعى إلى البساطة في متاجرها، عكس سلسلة مُنتجاتها التي أصبحت مليئة بالتجزئة.
عند النظر اليوم إلى الهواتف الذكية التي تبيعها آبل يُمكن العثور على أكثر من أربعة خيارات مُتقاربة من ناحية الأسعار والمواصفات، فهنالك “آيفون إكس” (iPhone X) الصادر في 2017، رفقة “إكس إس” (Xs) و”إكس إس ماكس” (Xs Max) الصادرين في 2018 مع “إكس آر” (Xr) أيضا، دون نسيان آيفون 8 و7 المتوفّرين للشراء أيضا، وهذا بحد ذاته تشتّت.
تحتاج آبل في 2019 إلى العودة من جديد لتوفير خيارين لا ثالث لهما، جهاز بمواصفات رائدة، وآخر متوسط لضمان أفضل أداء مُمكن لنظام “آي أو إس” (iOS). وإلا، فإن سياستها الذكية في المتاجر القائمة على السماح للزبائن بتجربة الجهاز أملا في رفع احتماليّة شرائه لن تفي بالغرض، فلم تعد هواتف آيفون محصورة في طاولة واحدة، وسينخفض تركيز الزبون تدريجيا إلى أن يُصبح عاجزا عن اتّخاذ القرار المُناسب، وبالتالي العدول عن قرار الشراء أو تأجيله لأجل غير مُسمّى.
تخصيص تجربة الاستخدام
تركيز آبل في إصلاح مسيرتها على هواتف آيفون يأتي لمُساهمة تلك الأجهزة في أكثر من 60٪ من دخل الشركة سنويا، صحيح أن الهوية تتغيّر حاليا وتنتقل الشركة تدريجيا للاعتماد على قطاع الخدمات، إلا أن هذا الأمر لن يحدث بين ليلة وضحاها، لذا فإن تأمين نفسها عن طريق رفع مبيعات آيفون من جديد هو أفضل وسيلة على الورق.
في 2018، وعلى الرغم من الاعتماد على الزجاج لإنتاج هواتف ذكية رائدة، واجهت آبل ومُستخدمي الهواتف الجديدة مجموعة من المشاكل على صعيد الجودة من جهة، والمزايا من جهة أُخرى، فالبطاريّة فشلت لدى بعض المُستخدمين، والأمر نفسه بالنسبة للشاشة، وهذا أمر مُستهجن بالنظر إلى سعر الجهاز أولا، وتصميمه الثابت منذ 2014 -منذ آيفون 6- من جهة أُخرى.
تحتاج الشركة للخروج من منطقة الراحة الخاصّة بها وتقديم عامل الصدمة والمُفاجئة من جديد بعيدا عن الرصانة التي اعتادت عليها وعن شعار تقديّم الميزة الجديدة حين جهوزيتها بشكل كامل، لأنها وعلى الرغم من الانتظار فشلت في تقديم مُنتج شبه كامل. لذا، فإن الفشل في ميزة ثورية جديدة يُمكن تلافيه مُقارنة بالفشل في مزايا عاديّة لا تُقدّم أي جديد يُذكر.
سياسة آبل في ساعاتها الذكية درس يُستفاد منه على أكثر من صعيد، فتوفير خيارات محدودة، واحد رياضي مصنوع من الألمنيوم وآخر عادي من الستانلس ستيل ورائد مصنوع من السيراميك، يُساعد في اتخاذ القرار المُناسب من جهة، وتخصيص تجربة الاستخدام بفضل السوارات وألوانها المُختلفة هو وتر يُمكن اللعب عليه في الهواتف الذكية أيضا من جهة أُخرى، فالحصول على جهاز بسعر مُرتفع لن يكون عائقا عندما يشعر المُستخدم أنه هو من اختار كل شيء، عوضا عن سياسة آبل الحالية القائمة على فرض الخيارات دون أي بدائل أو مرونة.
توحيد تجربة الاستخدام
صحيح أن أكثر من 60٪ من دخل آبل السنوي قادم من هواتف آيفون، إلا أن جزءا كبيرا مما تبقّى يأتي من بقيّة الأجهزة على غرار حواسب آيباد اللوحية والحواسب العاملة بنظام “ماك أو إس” (macOS). ما سبق يُمكن صياغته -على صعيد أنظمة التشغيل- بطريقة أُخرى، “آي أو إس” و”ماك أو إس” رفقة “ووتش أو إس” (watchOS) في الساعة، وتلك أجهزة تختلف بشكل أو بآخر في تجربة الاستخدام.
في 2018، قدّمت آبل على استحياء فكرة الدمج بين نظامي “ماك أو إس” و”آي أو إس” عبر توفير إمكانية تشغيل تطبيقات الأخير على الأول، ففي الإصدار الأخير من “ماك أو إس”، تتوفّر تطبيقات افتراضية من “آي أو إس”، مثل المُلاحظات الصوتيّة وأسعار الأسهم، وهذا يفتح المجال أمام رؤية المزيد من التطبيقات خلال السنوات المُقبلة. لكن الواجهات أيضا تحتاج إلى أن تكون واحدة أو مُتقاربة لأن المُنافسين لا يلعبون بهوادة.
تُطوّر شركة غوغل نظام “فوشيا” (Fuchsia OS) للعمل على مجموعة مُختلفة من الأجهزة تبدأ من الهواتف الذكية والحواسب اللوحية وتصل إلى الحواسب العادية دون الحاجة إلى تغيير أي شيء على صعيد الشيفرة البرمجية. بمعنى آخر، ستكون واجهات “فوشيا” مرنة تأخذ حجم الشاشة أيا كانت دون الحاجة إلى تخصيص هذا الشيء بشكل يدوي مثلما هو الحال حاليا في نظام أندرويد. مايكروسوفت هي الأُخرى، وعلى الرغم من ابتعادها عن المُنافسة في سوق الأجهزة الذكية، فإن مشروعها “آندروميدا” (Microsoft Andromeda) قادم بنفس فكر غوغل، أي تطوير جهاز قابل للطيّ، ونسخة من نظام ويندوز 10 مرنة قادرة على العمل أيا كان حجم الشاشة دون أن يتأثّر الأداء، لتبقى شركة آبل بمُفردها دون أي نيّات مُعلنة، صحيح أن غوغل تعيش هذه التجزئة أيضا في أندرويد و”كروم أو إس” (Chrome OS)، إلا أن “فوشيا” يحفظ ماء وجهها عكس آبل.
كانت آبل في وقت من الأوقات هي المسؤولة عن وضع معايير سوق التقنية، أو على الأقل المُساهمة في رسم معالمه. لكنها خلال السنوات الماضيّة اكتفت بدور المُتفرّج دون معرفة سبب واضح، إما بسبب تشبّعها وإعجابها بالنموذج الحالي، الذي لن يدوم بالمُناسبة، أو لأنها تعمل على مشاريع ثورية لم يأتي وقتها حتى الآن، وهي التي دائما ما تعمل بشكل صامت وتُحيط مشاريعها بسريّة تامّة للحفاظ على عُنصر المُفاجأة، إلا أن إصلاح بعض الأخطاء أمر مطلوب أيا كان السبب لأن العودة إلى السكّة بعد الخروج منها ليس بالأمر الهيّن.