“PUBG“، وهي لعبة “video game” يمكنك لعبها على هاتفك الذكي أو حاسوبك الشخصي. فكل ما عليك فعله هو التسجيل في اللعبة (online) واختيار شخصية افتراضية أو “أفاتار” (avatar) مناسب لك، لتبدأ. تضعك اللعبة مع مجموعة يقفزون من طائرة، وبمجرد أن تهبط على الأرض، على كل لاعب أن يجد سلاحا ليقتل جميع الفرق المتواجدة، والفريق الناجي هو الفائز.
انتشرت تلك اللعبة مؤخرا بصورة واسعة، وأصبح شباب كثيرون يلعبونها، خاصة من الشباب العربي، لدرجة تأثيرها على رؤيتهم نحو الأحداث السياسية كما حدث في غزة مؤخرا، فلماذا يُقبل الشباب على تلك اللعبة ومثيلاتها، وكيف تؤثر على رؤيتهم للعالم؟
عرب مجهولون في ساحة المعركة
حتى الآن، تم بيع أكثر من 15 مليون نسخة، وتضم اللعبة أكثر من 20 مليون لاعب يوميا، كما تم تحميلها من متجر أندرويد أكثر من 32.34 مليون مرة، وأصبحت في مقدمة الألعاب التي يجري تنزيلها في أكثر من 100 دولة، كما تعدى عدد مستخدمي اللعبة حاجز 400 مليون، ويُقدّر مجموع الأوقات التي قضاها اللاعبون داخل تلك اللعبة بـ 25 عاما.
تبدأ اللعبة بـ 100 لاعب يقفزون من طائرة حربية تحلق فوق جزيرة كبيرة، ويبدؤون بعدها جمع الأسلحة وقتل بعضهم بعضا، فيصبح الجميع قتلة وضحايا، ويجب على اللاعب أن يكون الشخص الأخير الناجي على الجزيرة بعد أن يقتل باقي اللاعبين، لكنه لا يمكنك الاختباء ببساطة وانتظار نهاية اللعبة، حيث إن منطقة اللعب (play zone) تتقلص بشكل مستمر، ومن يبقى خارجها تتناقص نقاط دمه حتى الموت، وهذا ما يدفع ويحفز جميع اللاعبين إلى التحرك الدائم.
يس هذا هو السبب الوحيد الذي يجعل للعبة جاذبية كبيرة بين الشباب، فهي تجمع كذلك بين الفردية والجماعية، فيمكنك أن تلعب وحيدا ضد 99 لاعبا آخر، بما في ذلك من تحدٍّ كبير، ويمكنك أن تنضم للاعبين آخرين لتكوّنوا فريقا من أربعة لاعبين على الأكثر، ويتواصل هؤلاء اللاعبون عن طريق “الميكرفون وسماعة الرأس” حيث يمكنهم الحديث صوتيا أثناء القتال، مما يعزز التواصل، خاصة بين الأصدقاء.
ورغم أن ألعاب الفيديو قد ظهرت منذ أكثر من نصف قرن، فإنها في العقدين الماضيين تحديدا أصبحت تقدم تجارب وخبرات تشاركية لا نهاية لها عبر الإنترنت، خاصة ألعاب ما يُسمى بـ “تقمص الأدوار” أو (MMORPGs)، وهي ألعاب يكون للاعب فيها “أفاتار” أو شخصية متجسدة في عالم خيالي، وعلى عكس الألعاب النمطية يتحكم ممارسو ألعاب “الأفاتار” بشكل كامل في المواصفات الفيزيائية لشخصياتهم الافتراضية، وكذلك في تطوره وسماته، وكلما خاض اللاعب مزيدا من المعارك تطورت وتقدمت شخصيته الافتراضية، وامتلك أدوات ومهارات أكثر.
وقد خلص الكاتبان داريا كوس ومارك غريفيث إلى أنه نظرا إلى الاحتمالات اللامحدودة للعوالم الجديدة من الألعاب “MMORPGs” وطبيعتها الاجتماعية، واحتمال أن ينشأ ارتباط بين اللاعب وشخصيته المستعارة، تُعد ألعاب “الأفاتار” من أكثر ألعاب الفيديو التي تلقى رواجا. ويقول أحد اللاعبين مفسرا حبه لتلك الألعاب: “لقد صُممت هذه الألعاب خصيصا لجذب اللاعب إلى عالمها، فكلما نجحت في تخطي أحد المستويات فإنك تُكافَأ بالانتقال إلى المستوى الذي يليه، فهي لا تتوقف من تلقاء نفسها مطلقا، وإن أخذت استراحة فإنك إما ستتعرض لمعاناة في العودة لممارسة اللعبة لاحقا، وإما ستشعر بالوحشة لافتقادك الإثارة والمتعة التي تمنحك إياها ممارسة اللعبة”.
ويرى مجموعة من العلماء أن الرغبة في ممارسة الألعاب عبر الإنترنت والرغبة في إدمان المخدرات تشتركان في الطبيعة العصبية البيولوجية نفسها، كما يزعم أحد العلماء أن المراهقين قد يقضون وقتا أطول في ممارسة الألعاب، ويسبق تفكيرهم في هذه الالعاب تفكيرهم في أمورهم الحياتية الأخرى، وأنهم يمارسون هذه الألعاب بهدف الهرب من مشكلاتهم العاطفية، ويواجهون صعوبة في العمل الأكاديمي والانخراط في المجتمع.
أحد اللاعبين المصريين وهو في عقد العشرينيات من عمره قال: “لعبة PUBG mobile لعبة قوية جدا دمجت بين ألعاب كتير كنا كلنا بنحبها وبنلعبها واحنا صغيرين زي GTA وHalf life وCounter strike وCrossfire.. هي خليط فظيع كده بينهم كلهم. عاش يا جماعة، بفتح ما شاء الله بلاقي مصر كلها أونلاين وبتلعب طول اليوم، بقالي يومين حرفيا مش بعمل حاجة غير أني بلعب”.
وفي حوار مع أحد الشباب المتابعين للعبة قال: “أعتقد أن أكثر من ٧٥% من لاعبي “PUBG” يحملون ولاءً كاملا للعبة، حيث يصل إلى عدد ساعات أكثر من ٤ ساعات، معظمهم أولا من العالم الثالث عموما أو من دول ذات كثافة سكانية كبيرة مثل الهند أو دول محتلة مثل العراق وسوريا ومصر طبعا، أنا بلعب اللعبة من شهور ودخلت على سيرفرات كثيرة ونادرا ما وجدت لاعبين من دولة أوروبية يلعب بكثافة مثل العرب والهنود”.
العوالم الافتراضية اليوم أضحت تحيط بعالمنا، وتمتص كل ما فيه لتحوّله إلى أرقام وصور، هكذا أصبحت العلاقات بين البشر افتراضية، والعملات افتراضية، والبورصة افترااضية، والشركات افتراضية، والألعاب افتراضية، لكن، ماذا يحدث عند الخط الفاصل بين الحياة الحقيقية والعالم الافتراضي؟
كان هذا عنوانا لورقة توضيحية أعدها هيدييوكي تامورا (hideyuki tamura) للأبحاث، التي قامت بها اليابان عام 1997 لأجل المشروع الذي يُعرف باسم: “خلط الواقع أو الواقع المختلط”، وهو مشروع يمكن من خلاله إيجاد الوسيلة المناسبة لدمج الإنسان بالعالم الافتراضي بينما هو في حياته الحقيقية، من خلال أجهزة متطورة ونظارات خاصة لهذا الدمج (5)، وكان هذا المشروع هو الممهد لظهور ما يُعرف اليوم بـ “virtual reality” أو الواقع الافتراضي.
بيد أن سوزان غرينفيلد في كتابها “تغيُّر العقل” ذهبت إلى أنه حتى دون تلك النظارات الحديثة فالعقل البشري بعد مدة طويلة من التعامل مع العالم الافتراضي، خاصة الألعاب، يعيش بداخل ذلك العالم بالفعل، وذهبت أن السبب هو التحدي “الإنساني” المتمثل في التفاعل مع اللاعبين الآخرين الذين يبرزون في الفضاء الإلكتروني، وهو السبب نفسه الذي يجعل ألعاب الفيديو المتصلة بالإنترنت لديها احتمالات إدمانية أعلى من الألعاب غير المتصلة بالإنترنت.
وتُضيف “سوزان” أن ألعاب “تقمص الأدوار” أو الأفاتار تمتلك أنظمة معقدة للمكافأة متضمنة في صلب الألعاب، مع محاولة اللاعبين باستمرار الوصول إلى المستوى التالي، بجانب أن التفاعل الاجتماعي مع اللاعبين الآخرين هو سبب الإدمان الحقيقي، “وربما تكمن الجاذبية في أن اللاعب لا يمارس اللعبة فقط، لكنه يدخل في حياة تتسم بكونها مثيرة وآمنة في الوقت نفسه، سواء جسديا أو عقليا، فالعالم الحقيقي فوضوي وغامض، والأشخاص الحقيقيون ليسوا خيّرين تماما أو أشرارا مطلقا، لديهم دائما أفكار داخلية أو أسرار، وللأفعال دائما عواقب، مهما كانت غير مباشرة، أما بالنسبة لأهداف الحياة فهي بالنسبة إلى معظمنا أبعد ما تكون عن الوضوح، كما أنها عادة أكثر تعقيدا وشرطية، أما ألعاب الفيديو فتزيل الكثير مما هو صعب ومربك حول الحياة الواقعية، حيث إن الألعاب تبسط الواقع، تعلق العواقب، تضخم ردود الفعل، تضع أهدافا واضحة، وهي بمنزلة هروب قسري من إبهام وتعقيد العالم الحقيقي”.
يبدأ اللاعب في الدخول إلى اللعبة وتمر عليه الساعات دون أن يدري بها، ثم يحدث اتصال وثيق بين رغباته وعالمه الداخلي وبين العالم الافتراضي للعبة، وينعكس هذا بشكل واضح على تصميم الأفاتار الذي يختاره كل لاعب، فبيّنت البحوث أنه عندما يكون الناس غير سعداء في حياتهم أو غير راضين عنها، فهم يصنعون صور مجسدة “أفاتار” مختلفة تماما عن أنفسهم. أما الشخص السعيد فيصنع الأفاتار مثل نفسه تماما، لكن المدهش أن هؤلاء الذين يصنعون أفاتارا مختلفا تماما عن صورتهم، ينتهي بهم المطاف إلى الاستمتاع أكثر بعالم الألعاب، “وهم يقومون حرفيا باستكشاف هوية جديدة لأنفسهم في عالم الألعاب هذا، واختيار صورة مجسدة أفضل وأسرع، وأكثر لياقة وأقوى وأنحف وأطول وأجمل وأكثر ذكاء مما هم عليه”، وبرغم أن الألعاب ستظل مجالا للترفيه فإنها تفتح عالما جديدا بالكامل حيث كل شيء أفضل من الحياة الحقيقية.
لكن الأغرب على الإطلاق هو تماهي الذات الحقيقية للاعب أو الشخص مع ذلك “الأفاتار” الافتراضي، “إن ممارسة لعبة “وورلد أوف ووركرافت” (World Warcraft) تجعلني أشعر بأنني رباني.. فلدي سيطرة مطلقة، ويمكنني أن أفعل ما أريد مع عدد قليل من التداعيات الحقيقية، أما العالم الحقيقي فيجعلني أشعر بالعجز.. حاسوب معطل، أو طفل يبكي بحرقة.. تلك العقبات الصغيرة في الحياة اليومية تشعرني بأني منزوع القوة على نحو عميق”. هذا ما قاله أستاذ اللغة الإنجليزية ريان فان كليف وهو يتذكر الوقت الذي كان يمارس فيه ألعاب الفيديو لنحو ستين ساعة أسبوعيا، فهل تغير ألعاب الفيديو النظرة إلى العالم؟
أما شيريل أولسون وفريقها في مركز مستشفى ماساتشوستس العام للصحة العقلية ووسائل الإعلام فتشير إلى أن الألعاب العنيفة تساعد الطلاب على التغلب على التوتر والعدوان، حيث يقوم كثير من الطلاب سواء من الذكور أو الإناث بتفريغ غضبهم داخل ألعاب تحتوي على عمليات قتل مستمرة.
بخصوص لعبة “PUBG”، فخلال الاعتداءات الصهيونية الأخيرة على قطاع غزة نشر أحد الشباب العرب مقطع فيديو من اللعبة، وعلى أنغام موسيقى مسلسل “رأفت الهجان” يشترك اللاعب في فريق يحتوي على شباب صهاينة، ثم يفجر نفسه فيهم داخل اللعبة! حيث جعلت ألعاب الفيديو مفهوم “النضال والجهاد” افتراضيا مثل باقي المفاهيم التي تمت رقمنتها.
وتذكر “سوزان غرينفيلد” أن الألعاب تسبب “فقدان الذاكرة المصدرية”، حيث تظل الذاكرة سليمة لكنها تصبح أكثر عمومية، كما تنفصل عن أي سياق محدد، ولا يرتبط الشخص بالسرد المستمر لأحداث معينة، لكنه ينغمس أكثر في حاضر ضبابي مبهم المعالم، كذلك تجعل الألعاب لاعبيها عاطفيين للغاية وأكثر تفاعلا للأحاسيس بدلا من التصرف على نحو استباقي هادئ.
وهذا ما يجعل اللاعبين يرون العالم بنظرة مجزأة، حيث يرسخ في عقلهم الباطن أن قواعد العالم مهيأة وجاهزة وما عليهم إلا الصراع والقتال داخله والفوز حسب القواعد المرسومة. وذلك ما يجعلهم ينظرون إلى العنف كوسيلة لحل جميع المشاكل، فعقل الإنسان يعتقد أن الطريقة العنيفة التي جعلته يفوز دائما في اللعبة ستجعله يفوز في العالم الحقيقي، مما يجعلهم يصابون بفقدان الحساسية تجاه العنف، فيقلّل ذلك من شعورهم الأخلاقي تجاه الآخر.
هكذا مثّلت “PUBG” شكلا جديدا في عالم ألعاب الفيديو الذي يتقدم كل يوم خطوة نحو ابتلاع العالم الحقيقي، لكن الجمهور هذه المرة هو الشباب العربي الذي أُغرم بتلك اللعبة بما توفره من تواصل اجتماعي ونوستالجيا ألعاب الطفولة ومتعة تجعله ينسى نفسه وهمومه في العالم الحقيقي.